الأربعاء، 13 نوفمبر 2019

عن سارة عابدين التي نظرت في مرآة الشعر حتى وجدت نفسها




ما هو الشعر؟ تقول الشاعرة المصرية سارة عابدين في ديوانها الجديد "المرأة التي نظرت في المرآة حتى اختفت" والصادر أخيراً عن دار صفصافة بالقاهرة، "الشعر هو كل ما تمنيته يوماً، ودهسته أقدام الحياة الثقيلة دهساً في قلبي، فنبت قصائد زائلة تماماً، مثل وجودي الهش المراوغ الزائل"، وهو تعريف شديد الدقة والبساطة في آن، ويحوّل الشعر من كونه مجازاً للكلمات إلى مجاز للحياة المفقودة، ويبدو هذا التعريف مدخل مناسب تماماً لقراءة هذا الديوان، الذي تبدو سارة وكأنها أعادت من خلاله كتابة حياتها التي عاشتها أو تمنت أن تعيشها، أو عاشتها شعراً بالموازاة مع حياتها العادية.
وربما تكون المفردتان الأكثر استخداماً في هذا الديوان هما "الألم"، و"الوحدة"، وهما وجهان لعملة واحدة في ظن سارة، فـ "الوحدة هي المعنى الأعمق للألم"، كما تقول في أحد نصوصها، هذه الوحدة التي جعلتها تختفي من شدة وطأتها، فقررت أن تبحث عن وجودها شعراً، مرة عن طريق مخاطبة ذاتها والتفتيش داخلها، ومرة عن طريق الحديث مع خالقها ومشاركته تفاصيل حياتها وآلامها.
ولهذا يتكون الديوان من نصين طويلين متقاطعين، النص الرئيسي والأطول هو الرسائل التي تتحدث فيها سارة عابدين إلى الله عن الكثير من التفاصيل اليومية، والنص الآخر تتحدث فيه سارة ـ في الغالب ـ إلى ذاتها وعن ذاتها، هو مقاطع شعرية يبدو همها الأساسي الشعر كقضية وحياة.
لا تذكر سارة ـ في الجزء الأول ـ أن رسائلها موجهة إلى الله، تشير إلى ذلك فقط بشكل عرضي في منتصف الديوان تقريباً، وفي نصين أخيرين تتوجه فيهما إلى السماء بالحديث، لكن يمكن للقارئ أن يستنتج ذلك بداية من النص الثاني عندما تتحدث عن الملائكة الذين يمنعون وصول الرسائل.
تحكي سارة في رسائلها إلى الله عن تفاصيل يومها شديدة البساطة، فتخبره عن رواية تقرأها، وعن الأبراج، وعن الضيوف الذين تكرههم ولا يجيئون، وعن تجاهلها واجباتها الاجتماعية، وعن حلقات ذا فويس التي تتابعها، وعن كراهيتها للأطباء الذين لا يجيدون التفريق بين الدراما والتراجيديا، تفعل هذا كأنها تحكي لصديقة بينما تجلسان في اطمئنان تتجاذبان أطراف الحديث، أو كأنها تروي لشخص تحبه ويشاركها حياتها ما مر بها في يومها، بل تذكره ببعض التفاصيل القديمة التي عاشاها معاً، منذ طفولتها أحياناً "هل تذكر، عندما كنت أسرع للنوم عند تكاثف النقاط السوداء على شاشة التلفزيون؟ كنت أغلقه بسرعة قبل أن تشفطني الشاشة ويلتهمني العدم".
ولأنها تدرك أنها تكتب يومها المتخيل أو المفتقد، تبدأ سارة عابدين ديوانها بجملة شديدة الاعتيادية "صباح الخير"، كأنها تبدأ يومها، أو حياتها، كأنها تشير إلى أن ما سنقرأه بعد قليل هو محض يوميات، ثم تقدم تهنئة "كل عام وأنت بخير"، لا نعرف ما المناسبة، لكنها تريد أن توحي للقارئ أن ثمة معرفة قديمة بين المرسِل والمرسَل إليه. في الرسالة الثانية، تبدأ الأمور تتضح تدريجياً. تعرف الشاعرة نفسها، بعد كثير من التفاصيل اليومية التي تبدو أنها تربكها فتهرب منها إلى الكتابة: "هاي، أنا سارة، ساذجة وبلهاء، وبالرغم من ذلك أفهم الدعابات، اسمحوا لرسائلي بالمرور دون أن تنتظر طويلاً، حتى لا تتكدس المسافة بين السماء والأرض". تبدأ سارة الرسالة الأولى بصباح الخير، والثانية بمساء الخير، كأنها تقول للقارئ أنها تكتب في الصباح والمساء، أنها تحول كل تفاصيل يومها إلى شعر عبر هذه الرسائل، أنها تلجأ إلى الشعر لكي تحتمل هذه الحياة،  أنها تخلق حياة موازية بهذه الرسائل. ولأن كل ما تفعله هو الكتابة، والتفكير في الكتابة، وتحويل كل ما حولها إلى كتابة، لذا فهي لا تخجل عندما تترك صديقتها على الهاتف لتكتب إلى الله: "صديقتي تقرأ بضع صفحات من رواية لها قيد الكتابة، أهاتفها وأنهي المكالمة بسرعة حتى أكتب إليك".
والصداقة هنا أحد أسباب الكتابة، فإذا كانت الذات الشاعرة تكتب هرباً من الوحدة، فلأنها في المقابل لا تجد أحداً من حولها، فهي تارة فتاة وحيدة لا تجد صديقة تتسوق معها (بل تسأله إذا كان قد تسوق من قبل)، وتارة تخيب توقعات كل من حولها (صديقاتها اللاتي تتجاهل رسائلهن)، وتارة تخاطب الله قائلة "الموضوع لم يعد بسيطا، وأنا أكاتبك الآن كما أكاتب صديقا مقرباً"، لكنها في النهاية تعترف بأنه صديقها الوحيد، لهذا تكتب له:
"أنت صديقي الوحيد
لكنك تتجاهل رسائلي، هل قذفتني في البحر فقط
لتراقب الدوائر المتواترة
على كل حال، أنا أتفهم تجاهلك لي".
تكتب سارة إلى الله رغم أنها تعرف إن "صديقها الوحيد" لن يرد عليها، لكنها تعرف أنه سيرسل لها إشارات، مثل "الألم الناجم عن نزع البلاستر الطبي"، تكتب وهي تعرف أنه قد يتجاهل رسائلها، تكتب لأن لديها أسباباً أخرى للكتابة، تكتب لأنها تريد أن تحكي، أن تعترف "تجتاحني رغبة قوية في الاعتراف، أحاول التمسك بها للتخفف من الثقل الذي يطبق عليّ"، تكتب بحثاً عن الحماية من ثقل الحياة "أعاود الاحتماء بك"، تكتب هرباً من الموت الذي يجذبها إليه بتضييقه الخناق حولها "الجدل الذي أثيره، محاولات لتجاوز فكرة الموت تكتب لتوثيق الألم فربما يكون ذلك سبباً في نسيانه "أكتب الرسائل لك لأوثق لحظات ألمي، أركز على احتمالات الجمل الشعرية، وأتناسي احتمالات الهجوم القادم من جسمي على نفسه، وتخيل موضع الألم الجديد"، تكتب بحثاً عن صديق "أنا أكاتبك الآن كمان أكاتب صديقا مقربا"، تكتب لأنها تتألم "الألم يجبرني على التأمل، أقف في منتصف الحياة، وأتساءل من أنا، ماذا أفعل، وما معنى الحياةتكتب لأنها وحيدة وغاضبة ويائسة ولا شيء تفعله وينقذها سوى الكتابة "أنا وحيدة وغاضبة يا الله، يمكنني أن أهدم كل شيء، يمكنني أن أقف نفسي أمام قطار، أو ألقي نفسي في النهر لأختبر قدرتي على الطفو، كلما أوغلت أوغلت في اليأس، أوغلت في القوة"، تكتب أحياناَ لمجرد الحديث مع شخص يسمعها ويشعر بآلامها "لم يعد هناك ما أقوله، أنا أثرثر قط، لأنني لا أملك الوقت الكافي للصمت"، تكتب لأنها تبحث عمن يشاركها تفاصيل حياتها اليومية البسيطة "هل تصلك الأتربة الصفراء التي تلوث ملابسي على حبل الغسيل"، تكتب كمهرب من تفاهة هذه التفاصيل البسيطة "الكتابة إليك مهرب جديد من غسل الأطباق أو نشر الملابس على أحبال الغسيل".
سأقول للملابس والأطباق بحسم
انتظروا أكتب إلى الله،
سترتعب الملابس والأطباق من الخوف والرهبة، 
وأنا لن أفعل أكثر مما أفعله كل يوم،
أفكر فيك عندما تنغلق كل الدوائر حولي
لكن كتابة سارة ـ رغم ذلك ـ ليست مجرد حكي أو ثرثرة فارغة، ورسائلها لغرض ديني، بل هي "اختبار وجودي" كما تقول، واشتباك أيضاً في قضايا جدلية تخص الوجود والعدم والحياة والموت، اشتباك من اقترب فرأى فاطمأن فاشتبك عن معرفة دون خوف. تكتب كأنها تواجه، كأنها تخوض حرباً "اتركهم أولاً يراسلونك بحذر حتى يدركوا معنى الاشتباك، تذكر أرجوك عندما تنهمر عليك الرسائل أنني لم أخش المواجهة".
لذا يمكن القول إن هموم سارة، التي تتحدث فيها مع الله ليست شخصية فقط، حتى ولو بدت أنها تتكلم عن جارتها والطبيب وآلام الولادة، لأنها في المقابل تتحدث عن الخراب الأكبر، وانفجارات الكون:
"أنا غاضبة يا الله،
أنت تعرف بالتأكيد،
القدر موحش، الغياب موحش
الوجود هو الوحشة الكبرى".
أسئلة سارة بالأساس في هذه الرسائل/ الديوان تتعلق جميعها بالمصير وبالخلق، بالضياع البشري وتضاؤل المعنى الإنساني، لذا تكتب كمن لم يتبق لديه شيء ليخسره، ولهذا تستدعي شخوصاً لهم علاقة بهذا القلق الوجودي مثل سيلفيا بلاث، وسيوران وميلان كونديرا، وتشارلز بوكوفسكي، لتشاركهم أسئلتهم ورفضهم للحياة.
في بعض الأحيان تشك سارة في جدوى الرسائل، أو تنتظر رداً تعرف أنه لن يأتي رغم أنها تعرف أنه رأي رسائلها "رسائلي إليك تتراكم، ماذا بعد كلمة seen"، هذا يطمئنها لكنها لا تلبث أن تنفي عن خطّها تهمة التسبب في عدم الرد "ساعي بريدك أكثر وضوحا منك، لا أظن أن لخطي السيء علاقة بتعاملك مع رسائلي"، بل تفكر في أن تطور الكتابة إليه بالمحادثة الهاتفية "بعد شهور من المراسلة، تمنحني دقائق من السعادة، هل يتوجب علي محادثتك هاتفيا حتى أظفر بدقائق أكثر من السعادة"، لكنها تتراجع عن ذلك "لم أعد أرغب بالكلام. الرسائل تناسبني أكثر، تناسب رغبتي في الانفلات من الحياة".
لكن في ظني أن هذه الرسائل، ليست موجهة إلى الله بقدر ما هي موجهة إلى سارة الأخرى في المرآة، تلك التي تتضاءل وتختفي، والتي نراها بشكل أكثر وضوحاً في النصوص الأخرى، هذه النصوص عن شاعرة تبحث عن ذاتها التي تفتقدها، لتجلس معها وتحاورها، ولا طريق إلى ذلك سوى الشعر:
"مدهش أن أجالس نفسي وأحاورها
ثم أبصق على نفسي وأوبخها
ثم أربت على كتف نفسي وأحتضنني
وأبدأ في البكاء من جديد
سنوات من الوحدة وهجر البشر
أزرع أشجار الوحشة في صدري
أتركها تنمو على إيقاعات موسيقى الفادو واالبلوز ودقات الزار".
تكتب سارة عابدين الشعر إذن بحثاً عن نفسها، حتى رسائلها إلى الله، يمكن أن نقول في تأويل آخر إنها ليست إلا رغبة منها في أن يعرفها إلى ذاتها، لأنه بالنسبة لها هو الملاذ الأخير، حتى أنها لا تأبه لكون الله يحب الشعرأم لا، ورغم ذلك تراسله شعراً، "يبدو أنك لا تحب الشعر، وأنا لا أهتم بذلك"، فالشعر في نظره ونظر عوام الناس خطأ، لكنه يحقق سعادتها "أعيش بلا أخطاء تذكر سوى كتابة الشعر".
والشعر بالنسبة لسارة عابدين هو المرآة التي تنظر فيها حتى تجد نفسها، ذاتها الحقيقية وليست تلك التي يتعامل معها الجميع دون أن يستطيعوا الوصول إلى جوهرها "صورتنا في المرآة في نهاية الأمر، ليست سوى انعكاس ساذج لما نفعله في الحياة"، لكنها لا تريد هذا الانعكاس الساذج، بل تعيد تجميع ذاتها الحقيقية عبر القصائد كطفلة تجمع قطع البازل لتكوّن في النهاية حقيقتها الغائبة، تفعل ذلك في الشعر لأن "الحياة ليست لعبة"، بينما الشعر هو عالمها/ لعبتها/ حياتها الافتراضية، ولأن "كل الأشياء من حولنا حقيقية أكثر مما نحتمل"، ولهذا تلجأ سارة للمجاز، للحياة على سبيل المجاز.
وحين تنظر الذات الشاعرة إلى المرآة لا تعرف نفسها "الهيئات تتغير، وأنا أصبحت لا أشبهني، ولا أثق أن الألم سيزول"، نحن إذن أمام ذاتين مختلفتين، لا تشبه إحداهما الأخرى، لكن الذات التي تكتب هي التي تقاوم، تلجأ للكتابة لتجاوز عتمة الواقع، "القمر معتم تماماً، مثل العتمة القابعة بداخلي، والتي أكتب لأجل أن أتجاوزها" لتحويل مفرداته العادية إلى شعر مثل جملة "جسمك بياكل نفسه" التي تراها شعراً، بل ترى الأشياء بشكل مختلف عن الآخرين العاديين "تقول لي صديقة: الألم جعلك مضيئة، كيف للألم أن يضيء، أنا انطفأت تماما، الألم جعلني أتضاءل، الجميع يقول لي: جيد، فقدت كيلوات زائدة من وزنك، لكني أتمنى استعادة سحب روحي الضاحكة التي تبخرت مع الكيلوات المفقودة"
الصفة الأكثر التصاقاً بالذات الشاعرة هي الألم "لماذا لا تأتي أنت أيضاً واضحاً كالألم؟"، لكن الكلمة الأكثر حضوراً هي "الوحدة"، وهما مترابطتان ـ كما أشرت من قبل ـ ولأنه "مع الألم نكون وحيدين تماماً، لم أعد بحاجة إلى كلمات المواساة أو مشاعر التعاطف، أنا بحاجة إلى خلع كرة الألم، وقذفها بعيدا عني مثل قنبلة صغيرة".
على الرغم من أن الذات الشاعرة تشكو في بعض الأحيان الوحدة، فتصف نفسها بالقول: "تمشي في الشوارع وحيدة منذ عشرين عاما أو أكثر"، لكنها تبحث عنه في أحيان كثيرة "أفتقد الأماكن والأفعال، ولا أفتقد البشر، أفتقد التمشية  دون صحبة والبوح دون من يسمعني"، ربما لأن الرفقة التي تريدها ليست موجودة في هذا العالم، ولهذا تحسد الله على وحدته "لماذا استأثرت بكل الوحدة لنفسك"، وتلجأ إلى السحر الذي سينقذها "الحياة ليست عادلة، وأنا بحاجة إلى السحر، أربي السحر في صدري، حتى ينمو ويلتهمني"، والشعر كما تعرفه في موضع آخر هو "الشعر: السحر الذي يسري بداخلي"، لهذا يصبح الشعر ترياقاً، وتصبح الرسائل علاجاً للألم:
"لم تزدني الكتابة إلا عزلة
ولم يزدني الشعر إلا وحدة
أجمع ذكرياتي ومشاعري في أكياس قمامة سوداء
وأقذفها للكلاب الضالة
وأضحك من كل المثاليات التي
اعتنقتها من قبل"
تحضر سيلفيا بلاث بقوة في الديوان من خلال قصيدة تخاطبها فيها الذات الشاعرة، ويبدو حضورها هنا مناسباً، لأنه ليس إلا تماهياً في حياتها، وفي ألمها، لا سيما قبل الانتحار:
"الآن فقط يا سيلفيا أدركت مدى ثقل الحياة
عرفت أن ثرثرتك في الكتابة ضرورية
حتى يتوقف الناقوس عن الدق"
تصف سارة كتابة سيلفيا بـ"الثرثرة"، وهو ذات الوصف الذي تصف به رسائلها إلى الله في غير موضع بالديوان، وكأنها تريد أن تقول أن الكتابة/ الثرثرة ضرورية، لأنها ليست إلا طريقة للنجاة من الموت، ومن اللافت أن سارة عابدين أنهت ديوانها بجملة تقول فيها "ماء البحر يقترب من الخط الفاصل، وأنا لم أجرب الغرق من قبل"، ربما في إشارة إلى مختارات سيلفيا المعنونة "أكثر من طريقة لائقة للغرق"، وإشارة إلى استسلام أمام الحياة، بعد محاولات الهروب من الموت ومصير سيلفيا بالكتابة إلى الله، وباللجوء إلى الشعر، وكأن نهاية الديوان/ الرسائل/ الكتابة، تعني النهاية، بالعودة إلى الواقع الذي هربت منه في ثنايا الكتاب.
في ديوان "المرأة التي نظرت في المرآة حتى اختفت"، لسارة عابدين، نحن أمام قصيدة واحدة طويلة موجعة، قصيدة عن الوحدة والألم، عن البحث عن "الونس" والهروب إلى الكتابة، عن الشك في العالم، واليقين في الشعر.
.....................
*نشر في موقع 24

الاثنين، 19 أغسطس 2019

"المقاعد الخلفية".. شخصيات مضطربة في مجتمع متداعٍ


محمد أبو زيد
يحيل مصطلح "المقاعد الخلفية"، والذي اتخذته الروائية المصرية نهلة كرم عنواناً لروايتها الصادرة أخيراً عن "الدار المصرية اللبنانية"، إلى أحد أمرين: إما هؤلاء الذين يجلسون في الخلف كأنهم كاميرا سريّة تسجل كل شيء، يرصدون ويراقبون ما يحدث أمامهم دون أن يراهم أحد، أو أولئك الذين يجلسون في المقاعد الخلفية المظلمة ليفعلوا أموراً في الخفاء لا يريدون لأحد أن يراها.
وكلا التعريفين يمكن تطبيقه ببساطة على الرواية، غير أن التعريف الأول يبدو أكثر انطباقاً على الروائية نفسها، التي تشاهد، عبر فصول الرواية الستين، وتخلق وتصيغ من زاوية رؤيتها الخلفية شخصيات شديدة الواقعية، نكاد نلمسها بأيدينا من شدة ما نعرفها في حياتنا، بأبجديات هذا العصر، وبتفاصيله، وبهموم نسائه وقضاياهن الآنية.
 ورغم أن ما تسجله الروائية يبدو شديد العاديّة، بمعنى أنه مجرد سرد لقصص حب وزواج، إلا أن هذا سرّ جماله أهميته، إذ استطاعت الكاتبة أن تخلق من قصص معتادة ربما سمعناها من قبل أو عشناها أو رأيناها، حكاية متماسكة لشخصيات تبدو من الخارج غير ذات أهمية، إلا أنها صفحة بعد أخرى، تزيح عنها الغطاء الخارجي المتزن، لتكشف لنا عن باطنها المضطرب، وكأنها تستدعي خبرتها السابقة في الكتابة من تشريح نفسي لشخوصها، و تكمل ما بدأته في روايتها الأولى "على فراش فرويد".
تقدم نهلة كرم في روايتها الثانية "المقاعد الخلفية"، أربع حكايات متوزاية تتقاطع فيما بينها لأربع فتيات، لا تشبه إحداها الأخرى إلا في همها الأساسي، غير أنها جميعاً تقدم تشريحاً لمجتمع يلهث خلف الزواج للحفاظ على الشكل الذي خلقته العادات والتقاليد، وتزيح الستار لتكشف عما يعتمل في باطن هذه العلاقات، أو في الطريق إليها، وما خلقته هذه العادات من تشوهات فكرية.
لا تسعى نهلة كرم في روايتها، لأن تقول "كلاماً كبيراً" أو معقداً، بل تترك شخصياتها تتحرك، تترك الحكاية تقول ذلك، هي ببساطة تترك نفسها ـ مثل بطلتها سارة ـ لغواية الحكي التي تسحب القارئ عبر أكثر من أربعمائة صفحة، ليخرج بالسؤال الأكبر، عن العلاقة بين الزواج والأمان، هل لا زالت نفس العلاقة التي تربينا عليها؟ لماذا زادت حالات الانفصال إذن؟ لماذا تأخر سن الزواج؟ ماسبب الخرس الزوجي؟ لماذا يعزف الشباب عن الزواج؟ لماذا أصبحت الجموفوبيا هاجساً لدى الكثيرين؟ وإذا كانت هذه أسئلة تصلح لأن يقدم خبراء علم الاجتماع إجاباتهم عليها، فإن الكاتبة قدمت إجاباتها عبر حكايات محبوكة، تربط الماضي بالمستقبل بالحاضر، ولا تُبرّئ أحداً.
لا تُبرّئ نهلة الكرم الماضي بمعنييه: ماضي الشخصيات، أوإرثها المجتمعي. ولا تحرك شخصياتها بمعزل عن ماضيها، بل إن غواية "المقاعد الخلفية" التي أصابت البطلة الرئيسية للرواية سارة، جاءت في الأساس من حادث في مراهقتها ألقى بظلاله على جميع علاقاتها اللاحقة، على كل مستقبلها، بل قيّد هذا المستقبل، فربط المتعة بالخوف، لذا لم تعد ترغب في علاقة عادية، تريد أن تشعر بالخطر، حتى تشعر بالمتعة، فتلجأ إلى مقاعد السي تي إيه الخلفية، أو قاعات السينما المظلمة أو مداخل البنايات المظلمة. تحوّل الماضي الشخصي إلى مرضِ نفسي يطارد صاحبته، ويهدد زواجها.
لكننا في حالة منة نرى أن من يهددها هو ماضي عائلتها، وخوفها من تكرار فشل علاقة والديها، خوفها من أن يختفي حبيبها بسبب خيانة متوقعة طوال الوقت ـ حتى لو لم تحدث ـ كتكرار لما فعله الأب وهروبه. أما في حالة ريهام نجد أن من يهددها هو ماضي المجتمع الذي يؤمن بالخرافات من ناحية والرغبة في الزواج بأية طريقة، وفي حالة آية، فالماضي يهددها عن طريق الفهم الخاطئ للحب والارتباط، كما زرعه المجتمع عبر سنوات عمرها فيها.
ومن اللافت هنا أنه لا توجد في الرواية قصة حب سوية وكاملة من طرفين، سواء كانت في جيل الآباء أو الحاضر. إذن ربما يكون سؤال الرواية هو مدى نجاح مؤسسة الزواج بآلياتها الحالية، فما دام المجتمع يدفع إليه دافعاً، فهل يمنح الفتيات الأمان باستمراره؟  فنحن إزاء علاقة رتيبة  وباردة بين والدي سارة، وانفصال بين والدي منة، ونرى آباء وأمهات بلا أزواج (سواء والدة رامي، أو حماة ريهام، أو عمو حسين)، وكأن الروائية بهذه النماذج تبرر سبب حالة عدم الأمان والخوف من الخرس الزوجي والخوف من الزواج والخوف من البقاء وحيداً، التي تطارد بطلاتها الأربع طوال الوقت.
هذه ليست رواية "رومانسية"، تتكلم عن الحب، كما ظن البعض، بل أمام نص مهموم بأسباب انتفاء الحب في هذا المجتمع الهش، الذي اختارت لأحداثه لحظة زمنية شديدة التعقيد، بل ربما يكون المبرر الأبرز لاختيار هذا التوقيت (سقوط حكم الإخوان)، هو الإسقاط على المجتمع المتشقق والمتداعي تحت تحولات وضغوط سياسية واجتماعية واقتصادية انفجرت بعد أن ظلت  مكتومة طوال ثلاثة عقود.
وبحيلة ذكية تُسقِط نهلة كرم إرث الماضي على فكرة الكراكيب، وتقول كل ما تريده على لسان أبطالها بشكل غير مباشر عندما تبدأ بطلتها سارة تصوير فيلمها التسجيلي عنها. فالكراكيب/ الماضي/ التقاليد البالية، كلها "أشياء يمكن التخلي عنها بسهولة ومع ذلك لا يتخلى عنها معظم الأشخاص لأنهم يعتقدون  أنهم قد يحتاجون إليها ذات يوم، ولا يحدث هذا غالباً"، رغم أن "الاحتفاظ بالكراكيب في جزء منه، ضعف وعدم قدرة على استيعاب فكرة التخلي عن الأشياء". ورغم أن سارة كانت تسقط هذا المعنى على علاقاتها السابقة، بمعنى أنها تحاول الحفاظ على مسافة من علاقاتها العاطفية السابقة لاستعادتها إذا احتاجت، إلا أن الإسقاط الأكبر سيكون على رؤيتها للارتباط ذاته كما يراه المجتمع وكما تراه هي، لا سيما بعد أن تقع في حب رامي، فتصبح أكثر قابلية للقبول بشروط المجتمع وقواعده للارتباط.
ليس الماضي هو القيد الوحيد الذي يقيد الشخصيات، بل المجتمع أيضاً وهو يتبدى في فرضية وجوب الزواج، أو أهمية البحث عن زوج، حتى لو حاربته سارة  بالـ gmophopia فإنها في النهاية تستسلم له، وحتى لو حدت تخوفات منة من تكرار ماضي أمها فإنها تسعى إليه، وحتى لو سعت آية إلى الحب عبره، فإنها تعرف إنه الحائط الأخير الذي ستقف عنده، وحتى لو اضطرت ريهام للمقارنة بين أكثر من شخص، فلأنه لا إطار سواه، يجعلها تستسلم في النهاية تماماً لتسلط حماتها، ولزوجها الذي يبيع الشقة.
هذه رواية مهمومة بمعالجة نظرتنا للزواج إذن. الزواج كما يصوره المجتمع، أو كما تربينا عليه، وكيف ينظر أبناء هذا الزمن إليه، لكن يبدو من النهايات التي تضعها نهلة كرم لمصائر شخصياتها أن النهاية واحدة، نهاية تشبه نهايات قصص الزواج في العقد الماضي، أو الذي سبقه، أو حتى القرن الماضي، وهذا ليس عيباً في الرواية، وإنما محاولة لإثبات ما أرادات الروائية قوله من أن الطرق إلى الزواج قد تتغير، لكنه سيظل كما هو، تلك المؤسسة المحكومة بالتقاليد الشرقية، في مجتمع متداعٍ تحت قيودها. هذه القيود التي سنكتشف مع الوقت أنها ليست سوى "كراكيب" يجب التخلي عنها أو استبدالها بما يناسب العصر وشخوصه.
تبدأ الرواية بسارة وهي تتلصص من مقعد خلفي على عاشقين في قاعة السينما، وكأنها تستعير عين المؤلفة كما ذكرنا من قبل، وتنتهي الرواية بأملها أن يتحول "المقعد الخلفي" إلى ذكرى، بشرط وجود الأمان. بين هذين المقعدين تبدو نهلة كرم في روايتها الثانية حكّاءة ماهرة، تستطيع أن تأخذ قارئها من يده ليجلس في صمت، ويتابع حكاياتها، وانتقالها من واحدة إلى أخرى، بإصغاء مخلص، لروائية تقدم في روايتها "الحكايات" كدليل أمان، ومفتاح حل، فبسببها أحبت سارة رامي، وغادرت خوفها.  وربما في حكايات نهلة كرم الجميلة ما يضيء ظلام المقاعد الخلفية للجميع.
..................
*نشر في موقع 24

السبت، 10 أغسطس 2019

"أنا أروى يا مريم"لـ أريج جمال.. ثورة النساء المهزومات


محمد أبو زيد
عن دار الساقي بلبنان، صدرت أخيراً رواية "أنا أروى يا مريم" للروائية المصرية أريج جمال، والتي تتتبع فيها مصير خمس نساء تطحنهن قسوة الحياة، وتقاليد المجتمع الذكوري، وثورة كل منهن بطريقتها الخاصة على أسوار ترتفع حولها يوماً بعد يوم، وتروي كل ذلك على خلفية طلقات الخرطوش في ميدان التحرير وقنابل الغاز المسيل للدموع في شارع محمد محمود، لتختلط ثورتان، لم يكتب لهما أن تكتملا.
من مريم إلى أروى إلى صدّيقة إلى أم كلثوم إلى سارة تتنقل أريج في عذوبة مؤلمة. كل واحدة تحمل جرحاً عميقاً، يفرضه كونها وُلِدت أنثى في مجتمع يدّعى التحضر لكنه لا زال يعيش ويشتهي عصر الحريم، لدرجة أن بعض النساء، خاصة الجدة التي لا قت ما لاقته من عائلتها، تفرض تعاليم هذا المجتمع على ابنها، وتدعوه للزواج بأخرى لتنجب له الولد الذي سيحمل اسمه أبيه.
الجراح التي تفتحها أريج جمال في هذه الرواية كثيرة، لكنها تمر عليها بيد جرّاح ماهر، حتى عندما تمر على قضيتين شائكتين هما العلاقة بين أروى ومريم، والعلاقة بين سارة وميشيل، لا يشعر القارئ بأنها تقصد الخوض في قضايا جدلية، بقدر ما يشعر أنها تفتح جراحاً مجتمعية طال تركها مغلقة حتى امتلأت بالصديد. لا يشعر القارئ أنها تسعى للإثارة، لأنها لا تسعى لذلك بالفعل، كل ما تريده هو أن تكشف جراحاً عميقة تمس أرواح أبطالها، وقضايا حياتية نراها كل يوم ونتلمسها في كل خطوة نخطوها.
يمكن القول إن "الهوية" هي سؤال هذه الرواية الحقيقي، الهوية بجميع مستوياتها، سواء كانت الوطن أو الجنس أو الدين، وكيف يتعامل المجتمع بسلطاته المختلفة (ٍسواء كانت سلطة الشارع أو الحاكم) معها، لذا فنحن طوال الوقت أمام نساء مقهورات سُلِبت هوياتهن، حتى في حكايات الحواديت التي تتقاطع مع حياة مريم، والتي تسمعها من أمها.
عنوان الرواية "أنا أروى يا مريم"، يحتمل أن ينطق بطريقتين فـ "أروى" يمكن أن يكون اسم الشخصية الرئيسية في الرواية، ويمكن أن يكون فعلاً مضارعاً بمعنى "يحكي"، وفي ظني أن الكاتبة تقصد المعنيين، لأنها تقدم الحكي كعلاج في النص، فماذا تملك النساء المقهورات غير أن يروين مآسيهن، تقول: "قالت لي إن الحكي هو المنقد الوحيد من الغم، لكنني عرفت أنه ليس المنقذ من الموت، ماما تحكي حتى ماتت"، لكنهن رغم ذلك لا يتوقفن عن الحكي، كأن حياتهن معلقة بهذا "الطقس"، كأن مريم حين تقرر أن تروي حكايتها لا يعنيها أن يسمعها أحد، كأنها تحكي للحياة نفسها، كما تقول الكاتبة.
وهكذا تبدو مريم عالقة في الحكايات والخيال، تتقاطع حياتها مع نساء حكاياتها، حكاية القرود، حكاية الأميرة النائمة، الأميرة في سوبر ماريو، حتى أن القارئ يمكن للحظة أن يعلق في خيال مريم، ولا يعرف الواقع من الخيال، كما لا تفرق هي بين الخوف والحقيقة.
رهان أريج جمال في هذه الرواية كان على اللغة. فأريج التي قدمت لغة أقرب إلى الشعر في مجموعتها القصصية الأخيرة "كنائس لا تسقط في الحرب"، تتحدى نفسها في هذا النص، لتقدم مستوى جديداً منها، كأنها تعيد اكتشافها، فتمزج العامية بالفصحى، لتقدم لغة خاصة، تعتمد في معظمها على "تفصيح" كلمات عامية، أو إعادة كلمات عامية إلى أصلها الفصيح، لتخلق في النهاية لغة جدلية تناسب كثيراً هذا النص.
هذه رواية هامسة، وعذبة كقصيدة شعر، ومؤلمة كهذا الوطن، الذي كانت تطل عليه أروى ومريم من نافذة غرفة في شارع شامبليون فتريانه ينزف، والهراوات الشرطية تهوي عليه، كأنهما تشهدان القيامة، الذي سألت مريم الله أن يقيمها، فقامت الثورة، استجابة لدعائها، وانتصاراً لكل النساء المهزومات.

الثلاثاء، 26 مارس 2019

"مزاج حر".. تجوال في خيال محمد الفخراني


تبدأ رواية "مزاج حر" للروائي المصري محمد الفخراني، والصادرة أخيراً عن "الدار المصرية اللبنانية" بالقاهرة، بكاتب في بداية الأربعين ـ نكتشف فيما بعد أنه هو المؤلف ذاته ـ يتحدث عن حلمه بالتجوال في العالم، كمتشرد متجوّل، بدون هاتف أو كاميرا أو طعام أو أدوية، فقط أوراق وأقلام وملابس خفيفة في حقيبة قماشية على ظهره، وهكذا تبدأ رحلته السياحية حول العالم.
هذه إذن رواية عن محمد الفخراني، وعن جولته فيما أحب ويحب، جولة ـ لو شئنا الدقة ـ فيما أثار دهشته واستغرابه وشغفه، جولة في خياله، لأنه في رحلته التي بدأت بقطار انطلق إلى العاصمة، لكنه بدأ يتوقف في مدن لم يكن لنا أن نتخيلها، تنقل فيها عبر الزمان والمكان، حيث تلتقى السماء بالأرض عند نقاط محددة كما كنا نتخيل في طفولتنا، تحدث جميع اللغات وقابل أشهر العشاق، لم يذهب إلى المدن التي تخوض حروباً ضروساً ـ ما قد يغري بعض الكتاب بدراميتهاـ لكنه ذهب إلى عصور النهضة، قابل عشاقاً وفنانين وشخصيات خيالية لم تغير شيئاً في العالم سوى أنها تركت ما يثير الدهشة والخيال.
يمكن تقسيم ما قابله الراوي في رحلته إلى خمسة أقسام: القسم الأول:  شخصيات حقيقية في لحظات فارقة من حياتها مثل عباس بن فرناس أثناء محاولته تحقيق حلم الطيران، وليوناردو دافنشي لحظة رسمه لوحته الشهيرة الموناليزا، وأرشميدس لحظة اكتشافه قانون الطفو، والملاحظ هنا أن الراوي لا يكتفي بالفرجة على التاريخ بل يدخل ليغيّره، فهو لا يترك ابن فرناس يسقط كما روت حوادث التاريخ، بل نراه يطير، بل ويتبعه في كل تجواله حول العالم، كأن استمرار الطيران جزء من تحقق شرط التجوال وهو استمرار الدهشة.
القسم الثاني: شخصيات من خيال مؤلفين آخرين، مثل دون كيخوته، وعبد ربه التائه، وشهرزاد، وأحدب نوتردام، وفيها يحاول تغيير مسارها لإنقاذ حيواتها من مصائرها المأساوية التي وُضعت لها، كأنه يحاول منحها حياة مستقلة عن الحياة التي منحها لها مؤلفوها، وهو ما يمكن أن نلاحظه بشكل أوضح أثناء لقائه روميو وجولييت، فنحن نقابل ـ معه ـ نسختين، النسخة الأولى ممثلين يؤدون دوراً في المسرحية الشكسبيرية، والنسخة الثانية تبدو حقيقية يتحادث معها ويحاول أن ينقذها من موتها الذي قدّره الكاتب لها، ولعل هذا يحيلنا إلى حوار مهم يورده الراوي مع البنت السمكة عن المبدع وإذا كان سيدمر شيئاً جميلاً قد صنعه، تقول: "أثق أن المبدع الذي أبدع كل هذا الجمال لن يتخلّى عن إبداعه، لا أتحدث عن فكرة دينية، أو منطق، أو كلام عقلاني، لكن عن الجمال". وهذه الفكرة تلح على الراوي في أكثر من موضع في الراوي لذا يحاول تغيير ما اتُّفق عليه تاريخياً وعقائدياً وعقلياً، في انحيازه للجمال والحب.
ولعل هذا يحيلنا إلى القسم الثالث من الشخصيات التي قابلها الراوي، وهي شخصيات خلقها من قبل في روايته الجميلة "ألف جناح للعالم"، يقول الفخراني في روايته "أجمل أمنياتي أن أرى من أبدعني"، لذا يقرر أن يحقق هذه الأمنيات لشخصيات روايته السابقة، لكن الشخصيات لا تعرفه، وإن كانت إحداها تحس به، بما لذلك من دلالات صوفية، وهو ما دفعني لإيراد مصطلح "الخلق" هنا عندما أتحدث عن علاقته بشخصياته، إذ يبدو كأنه يطرح فكرة التخيير والتسيير، ويتحدث عن مواقف لم يكتبها في الراوية، كأنه يترك لها حرية اختيار حياتها، كأن حياتها اتخذت مساراً بعيداً عنه، بل يكتشف بعد حوار معها أنها تعرف عنه أكثر مما يعرف عنها.
القسم الرابع: هي شخصيات من الميثولوجيا الدينية، وهي شخصيات مؤثرة بشدة في الديانات السماوية الثلاث، السيدة مريم العذراء، والنبي موسى، وعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ  وقابيل وهابيل ثم ينتقل إلى الجنة، التي يغادرها في نهاية الرواية إلى الأرض، بما لذلك من دلالات دينية واضحة، حيث الخيال هو الجنة،  والتي غادرها في النهاية ليستقر في الأرض بواقعيتها وبؤسها، في محاكاة لقصة النبي آدم عليه السلام، وخروجه من الجنة، لكن الفارق أن الراوي اصطحب جزءاً من خياله معه كرصيد إضافي للحياة، عندما يمر عباس بن فرناس يطير، فيرد على ما يعتقد أنه ابتسامة الله، إنه الإيمان بدور الخيال والحكي والدهشة والحب في استمرارية الحياة.
القسم الخامس: هو شخصيات من ابتكار المؤلف  أو جمادات: مثل القصة والرواية والشعر والموسيقا مثل الفتاة السمكة، والمهرج، والفتاة الكمان، والبائع المتجول، وملاك المشي وشيطان العرقلة، وهي شخصيات تشبه إلى حد كبير شخصيات المؤلف الأثيرة في مجموعاته القصصية، وروايته السابقة، وإن كان هذا يحيلني إلى إشارة مهمة حول ترابط عالم محمد الفخراني السردي، فإذا كانت هذه الشخصيات تربط الروية السابقة بهذه، فإن هذه الرواية تنتهي بذكر الجنة، والتي تبدو جزءاً من تكوين روايته القادمة، التي أسعدني الحظ وقرأت مقاطع منشورة من مخطوطها.
لا يمر تجوال الفخراني في العالم هباء، ففي كل لقاء له مع إحدى الشخصيات نجد سؤالاً مدهشاً، تتساءل شهر زاد على سبيل المثال: "هل أنا من حكيت الحكايات أم هي من حكت عني؟"، ويبدو لي أن محمد الفخراني هو من يطرح هذا السؤال، بولوجه إلى دم الحكايات، حكاياته وحكايات غيره، وهذا السؤال الدائري يشبه اللعبة، وهو يتكرر بصيغات فلسفية مختلفة على مدار الرواية، لكن الكاتب يحب هذه اللعبة، بل يرى أن الكتابة في حد ذاتها لعبة، لدرجة أنه يسمي إحدى مجموعاته القصصية الجميلة "قصص تلعب مع العالم"، ويرد على لسانه في هذه الرواية كثيراً قوله "أحب هذه اللعبة". لكن الحكي في هذه الرواية يتجاوز كونه لعبة مسلية إلى كونه حياة، فالحكايات أنقذت روح شهرذاد، وشفت شهريار، وحوّلت مسرور من سيّاف قاتل إلى عازف موسيقي.
وحين يقابل الشيخ عبد ربه التائه، الذي يصف ملامحه بأنها قادمة من تلك المسافة بين السؤال والإجابة، ويمنحه فرصة سؤال واحد، يسأل عن مفتاح أسرار الوجود، وتكون الإجابة هي "الحب"، والحب ـ مثله مثل الشغف ـ من مفاتيح هذه الرواية، ويكاد يكون الشيء الوحيد المكرر بصيغ متكررة في هذه الرواية هو ما يقرأه الراوي على جدران كل البلدان التي زارها "فلان يحب فلانة"، بلغات مختلفة، يوردها الفخراني بالعربية وبلغاتها الأصلية سواء كانت الإسبانية أو الهندية أو الإيطالية أو الصينية أو الإنجليزية، وغيرها، كأنه يريد أن يقول إن الحب هو اللغة الوحيدة المشتركة، التي تجمع كل هذه الأجناس والأعراق والبلاد وأن القلب هو الذاكرة الحقيقية لنا، ولهذا أيضاً يحاول أن يتدخل لإنقاذ قصص حب روميو وجولييت من الفشل، وأحدب نوتردام، كأن مهتمه هي البحث عن الحب في العالم وإنقاذه، بل إن يفاجأ أن شخصية روايته السابقة "القبطان"، كان يحب سيمويا، دون أن ينتبه هو كمؤلفٍ إلى ذلك، وكأن الحب يتجاوز القدر، أو حتى ما يصل إليه خيال المؤلف، ويصنع قدره وتاريخه بنفسه.
نحن إذن أمام عالم محمد الفخراني، وعندما أقول إن الرواية تجوال في خياله فأنا أقصد ذلك، لأنه يأخذنا من أيدينا ويسحبنا في رحلة غرائبية مثيرة مدهشة، نراه يأخذ قطعة صغيرة من السحاب يغمسها في النهر ويشرب، أو يقابل بيتاً على شكل قطة، نرى عالمه الأثير، سواء الذي قرأه أو رآه أو شاهده أو تعمله أو أحبه، عالمه الذي كلمات سره هي "الدهشة والحب والشغف والجمال"، فالحب ـ كما يقول ـ  "ليس إلا لحظة استثنائية من الدهشة"، والدهشة سبب للحياة أو كما يقول "اندهش تحيا"، والشغف كان مدخل روايته السابقة "ألف جناح للعالم"، حيث صدّرها بقوله "لا تفقد شغفك"، كأنه يريد أن يقول لا تفقد حياتك. والجمال هو الطبيعة في بدايتها، قبل أن تدخل فيها يد الإنسان بالتغيير والتبديل والإضافات. طبيعة على سجيتها، كما خلقها الله، وكما يتخيلها ويراها، لأن سحرية الأشياء في عاديتها كما أشار في أكثر من موضع في الرواية.
يقول الكاتب في روايته إن "عقل الإنسان هو أكثر مكان يتسع للمشي، فلا نهاية له"، وهذه الرواية المدهشة التي اكتشفنا عالمنا مرة أخرى فيها، وأعادت تشكيله، تجوال مذهل في عقل وخيال محمد الفخراني، فيا لها من دهشة.

الأحد، 24 مارس 2019

"محاولة الإيقاع بشبح".. النجاة عبر الحكاية


يقدم الروائي المصري هاني عبد المريد في روايته الجديدة "محاولة الإيقاع بشبح" الصادرة أخيراً عن الدار المصرية اللبنانية، حلولاً لكل مشاكل العالم عبر الحكاية، فالحكاية وحدها قادرة على محاربة العمى واستعادة الأرواح الضائعة وتحويل الدمى إلى  كيانات بشرية من لحم ودم والانتصار على الواقع وهزيمة الأسطورة، لكن بشرط أن تختار الحكاية المناسبة، المهم أن تحكي "حتى لو قصصت كل حكاياتك واحدة تلو الأخرى، حتى تأتي الحكاية التي ينتظرها الجميع بكل شغف"، كما قال على لسان إحدى بطللات روايته.
ولهذا يقدم هاني عبد المريد تنويعاً جديداً على سرد "ألف ليلة وليلة"، عبر خطين درامين متوازيين، أحدهما فانتازي (حكاية هانم وزوجها والعجوز)، والتي تروي فيه حكايات غرائبية لتستعيد عائلتها، فضلاً عن اللغة الموحية وأسطرة الشخصيات (العجوز على وجه التحديد)،  بل إن هانم نفسها تستعين بكتاب "ألف ليلة وليلة" لتقص منه الحكايات على زوجها.
الخط الآخر واقعي، لكنه يبدو فانتازياً من فرط غرابته، ويتبادل فيه الخال يونس والفتى يامن الحكايات للانتصار على الحياة وواقعهما المأزوم، عبر لعبة الكلمات التي تفضي بدورها إلى حكايات أخرى. يقول يامن: "جاءني خاطر أن الخال ستنتهي حياته يوم تفقد حكاياتي بريقها بالنسبة له"، ولهذا السبب يلجأ إلى مزج الخيال بالواقع (أليس هكذا تصنع الحكايات)، بل يتحول إلى "قناص يحاول طوال الوقت الإيقاع بما يرضيه من حكايات" كما يصف نفسه.
كل من في الرواية يقدم حكايته الخاصة لتجاوز أزمته، بل إن الرواية نفسها حكاية داخل حكاية، وتنتهي ونحن لا نعرف ما هي الحكاية المناسبة التي تحتاجها "هانم" لكي تعيد الحياة إلى أجساد زوجها وولديها، وهكذا يترك هاني عبد المريد الباب مفتوحاً لمحيط لا نهائي من الحكايات الأخرى التي يجب أن تروى، وهكذا يظل الأمل دائماً معلقاً بالحكاية طريقاً للحياة وللخلاص وللنجاة.
في الرواية، تنقل هانم الحكايات من العجوز إلى زوجها وولديها، دون أن تعيها أو حتى تحفظها "لم أشعر أنني أحمل حكاية، لم أشعر بأن لدي ما سأقصه عليهم في البيت حين أعود"، وكأن الغرض من الأمر كله هو الحكي، هو تلك الكلمات السحرية التي تملك طاقة الشفاء، مثل قراءة كلمات مقدسة غير مفهومة على مريض ليُشفى، أو أمام باب ليُفتح، كأنها "افتح يا سمسم"، أو "هابرا كادابرا"، أو غيرها من الكلمات السحرية التي تحمل طاقة الخلق والتغيير.
غرام هاني بـ "الحكاية" ورؤيته لها علاجاً موجود في معظم أعماله، فجميع عناوين قصص مجموعته البديعة "أساطير الأولين"، تبدأ بكلمة "حكاية"، كتأكيد على غرامه بفكرة الحكي المجردة من أي شيء آخر، وهو ما نجده بشكل آخر في جميع رواياته، فراوي روايته الأولى "عمود رخامي في منتصف الحلبة" يحكي كي يتذكر، كأن الذكرى التي تمنحها الحكاية تأكيد على حياته، وبطل روايته الثانية "كيرياليسون" يكتب مذكراته أو ينقشها على حائط سجنه التخيلي للانتصار على هزيمته، وبطل روايته الثالثة "أنا العالم"، ينصحه الطبيب بأن يكتب مذكراته كطريق للعلاج ولمقاومة وحدته وحتى لا ينتهي العالم، وفي روايته الأخيرة ـ والتي تبدو كدرة التاج في هذا التسلسل ـ  تأتي الحكاية كبعث للموتى، فتلجأ هانم للحكي كي تحول زوجها وولديها من دمى إلى كائنات حية، وهو نفس الفعل الذي يقوم به يامن في المقابل، فحكاياته تمنح الخال يونس الكفيف عينين، وتجعله يرى عبرها، بل يمكن اعتبار "الخال" دمية أخرى تحييها كلمات يامن.
في الروايات الأربع، نحن أمام حبيبة غائبة، غير ملموسة لنا، لا يمكن استحضارها حقيقة إلا من خلال الحكي (سواء كانت ريم "اسم الحبيبة في روايتين" أو محبوبة محب أو حتى فوفا التي نعرفها في معظم صفحات هذه الرواية من خلال حكيه عنها واستراقه النظر إليها من وراء الشيش)، وهو الفعل ذاته الذي تمارسه هانم تجاه زوجها الذي تفتقد وجوده الحسي، ولعل هذا يبرر لجوء هاني في جميع رواياته إلى صيغة الرواي المتكلم، بما تمنحه هذه التقنية الفنية للقارئ من قرب من الكاتب، كأنه يجلس بجواره ويسمع حكاياته.
ومن الملاحظ أن العائلة أن تحضر كمكون رئيسي في جميع أعمال هاني عبد المريد، ففي "عمود رخامي في منتصف الحلبة" نرى أسرة الراوي المشتتة، وفي كيرياليسون يستعيد الراوي "ناجح" نتفات من ذكرياته تكشف تفتت ذوات الجميع (الأب الشيخ تيسير والأم الخاضعة والخال القانع بقدره)، والأمر ذاته في "أنا العالم"، و"محاولة الإيقاع بشبح، حيث العائلة التي تفتتها الظروف، وهو ما يجعلنا إزاء أبطال مأزومين طوال الوقت، يواجهون أزماتهم بالكتابة (جميعهم يكتب مذكراته بطريقة أو بأخرى)، كأن غياب دفء العائلة يستعيض عنه الراوي بدفء الحكاية سواء كان ذلك عبر المونولوج الداخلي أو الديالوج.
يشير هذا أيضاً إلى وحدة العالم لدى هاني عبد المريد في أعماله، وتطورها أيضاً، وقد أشرنا سابقاً إلى تطور طريقة استخدامه لمفهوم الحكاية وقدرتها، لكن تشابك العالم الروائي لدى الكاتب  يتجاوز هذا لتنويعات أخرى، بداية من  شخصية "الخال" ذات الحضور الكبير في أكثر من عمل، إلى الغرام بتكوين عالم أسطوري، يمكن تلمسه أكثر إذا تتبعنا مجموعاته القصصية على حدة، إلى إشارات أخرى تربط هذه الرواية التي بين أيدينا بروايته السابقة "أنا العالم"، التي نرى فيها تحول شخصية كامل القط، وباقي إخوته إلى كرات من اللحم، وهو ما نجده بطريقة أخرى في هذه الرواية التي تبدأ بثلاثة من أبطالها قد تحولوا إلى دمى مطاطية، أيضاً لدينا في الرواية السابقة نبتتات النعناع في صدر الحبيبة، وفي الرواية الجديدة نجد السيدة التي نبت الريش على جسدها.
يواصل هاني عبد المريد في هذه الرواية ما بدأه في روايتيه السابقتين "أنا العالم"، و"كيرياليسون"، بل وفي قصصه القصيرة أيضاً، من خلق عالم خاص به، يتأرجح بين الحقيقة والأسطورة، الأسطورة التي تقع بدورها بين العبثية والفانتازيا، وربما لترابط هذا العالم ـ عالم الكاتب ـ بحكاياته وخصوصيته، يشير هاني إلى إحدى قصص مجموعته الأخيرة "تدريجياً وببطء" على لسان "هانم" بطلة روايته الجديدة، دون أن يوضح طبعاً أنها له، لكنها إشارة كافية لربط عالمه ببعضه البعض.
في هذه الرواية يرى الخال يونس عبر الحكاية وحدها، ويستعيد الأب مرزوق وولديه حواسهم كلها عبرها أيضاً. كأن هاني يريد أن يقول لنا إن الحكاية هي عصا الإله السحرية التي تمنح الحياة، كأنها النبي عيسى الذي يحيي الموتى، كأنها الروح التي تهب كل جماد نعمة الحياة، كأنه يريد أن يقول إن الحكي يكفي لمواجهة العالم، ويمكنه أن يكون حائطاً يتكئ عليه الجميع لهزيمة مخاوفهم وموتهم الافتراضي والحقيقي.
هذه الرواية الجميلة على الرغم من بساطتها، شديدة التعقيد، ليس فقط لأن الروائي استطاع الحفاظ على تماسكها وشد خيطي طرفيها بينما يتبادل رواية حكايتين مختلفتين دون أن يسقط الإيقاع من إحداهما، وليس فقط لأنها تعتمد على تكنيك الحكاية داخل الحكاية، لكن لأننا حتى نهايتها، وبينما نحن منغمسون في لعبة الكلمات والحكايات التي يمارسها الخال مع "يامن"، لا نعرف إذا كان قد حكى لنا حكاية الشبح أم لا، و لم نعرف ما هو الشبح الذي يريد هاني عبد المريد الإيقاع به: هل هو الحكاية، أم الخيال، أم القارئ.

السبت، 9 يونيو 2018

أغنيات آلاء حسانين الجارحة



تهدي الشاعرة المصرية آلاء حسانين، ديوانها الأول "يخرج مرتجفاً من أعماقه"، الصادر أخيراً عن "منشورات المتوسط" إلى طبيبها النفسي (الذي كان بلا فائدة معظم الوقت)، والذي يحضر كذلك بشخصه في قصائد الديوان. وإذا اعتبرنا هذا مفتاحاً يصلح لقراءة الديوان، فإننا يمكن أن نكتشف مع وصولنا إلى الصفحة الأخيرة منه أن الكتابة ـ باعتبارها فعلاً خارقاً ومُنقذاًـ هي الطبيب النفسي الحقيقي الذي ساعد الذات الشاعرة على مصارعة ومحاورة وتجاوز الموت وهواجس الانتحار.
الموت مفتاح آخر، وربما لهذا تأتي العلاقة معه في الديوان مركبة ومعقدة، فعلى رغم التجارب المبكرة معه في حياة الشاعرة، خاصة مع فقدان أحد أصدقائها، وهي التجربة الفارقة التي يبدو أنها غيرت نظرتها للحياة وكل ما حولها، إلا أن تناولها له في الديوان يتجاوز فكرة العداء التقليدي المتوقع، إلى استعارة التراث المصري القديم في العلاقة مع الموت من "متون الأهرام" و"الخروج إلى النهار"، إلى العدودات الاحتفالية بالموت في الجنازات، حيث يبدو الموت بعداً آخر نصله ونكتشفه وقد نصادقه بالغناء والكتابة.
ويمكن أن نعتبر هذا سبباً لاتسام  قصائد الديوان بالغنائية الجارحة، ولا أقصد هنا الغنائية المتأثرة بالإرث الأرسطي، أو السنتمنتالية الزاعقة، لكنها الغنائية التي تجعل القصيدة أشبه بعدودة قديمة في رثاء الحياة وما فيها، وبوابة لفهم أسئلتها الإنسانية الكبيرة، وبمبضع يفتح جراحها فتنطلق قصائدها مثل فراشات تدور حول النار وهي تعرف ما حدث من قبل وما سيحدث من بعد.
يرتبط  بهذا "أيمن ساعي" أحد أكثر الشخصيات وروداً في الديوان، والذي يحضر في الإهداء الثاني مع آخرين، بالإضافة إلى ثلاث قصائد، تتحول فيهم الشاعرة من مجرد "الرثاء" كغرض شعري تقليدي، إلى مساءلة الموت وتحليله، واعتباره مجرد رحلة سنعود منها يوماً، أو الدخول مع الفقيد في محاورة طويلة، حتى لو كانت من طرف واحد، وكأنها بذلك ستنجح في استدعائه، وإقناعه بالعودة:
"يوماً ما
حين تضجر من موتك
وتقرر أن تعود،
حين تفتقد قصائدك،
حربك الشرسة،
ببنادقها وخنادقها
بألغامها، التي كانت لا تنفجر
إلا في قلبك.."
الموت عند آلاء، يأتي كما وصفه الشاعر اليوناني يانيس ريتسوس: "الموت جمعٌ، وليس طرحاً. فلا شيء يضيع"، فأيمن ساعي باقٍ مع الذات الشاعرة كأنه لم يرحل، تتذكره في في الطرقات بينما تسير مع أصدقائها، وفي مراثيها المتعددة له، وحتى في ذلك يبقى ـ الموت ـ رغم وحشيته ـ مرآة أخرى للعالم، أو حائطاً شفافاً بين عالمين، ليس لأحدهما أفضلية على الآخر، بل تتفتح معه أبواب كثيرة، بل وربما تتحقق أمانٍ لم تستطع تحقيقها لنفسها في حياتها:
"عندما أموت
أريد أن أصير قارباً
وأبحر في الزرقة..."
وتجربة "الفقد" كما يقدمها الديوان شديدة الألم والقسوة، رغم أن الذات الشاعرة تحاول أن تتعايش معها، بعد مرور فترة طويلة على الرحيل كما نرى في "عامان تقريباً يكفيان للحداد على شخص ما"، لكنها لا تنجح في ذلك ألبتة:
"لم تعد الحياة تملك ما تعطيه أكثر
وقد أخذ الموتى كل شيء قبل رحيلهم
وفي بلدة كهذه
لا يجد الناس شيئاً يتحدثون عنه
والعودة بعد الموت لم تعد أمراً مهماً.."
تفقد آلاء هنا الأمل، وتعتبره "تفاهة"، لكنها لا تفتأ تواصل حزنها، وتذكّر الراحلين، والخوف على من يحيطون بها من أن يصيبهم الأذى، مثلما فعلت في قصيدتها البديعة "حلقٌ مكتظٌ برثاء طويل"، بل ومحاولة بث الصبر في قلوب من حولها، كما تفعل مع حبيبة الصديق الراحل:
"ثم نسير ونحن نربت بأكفنا الباردة
على قلوب بعضنا
ثم نعاود النفخ فيها من جديد
ونحن نقول بشيء من المواساة
لحبيبته ريتا
التي لا تقول شيئاً غير الصمت
وتهز رأسها بشكل حزين بعد كلامنا
الذي تعرفه مسبقاً.."
هنا تفتح آلاء جرحها إلى نهايته في مواجهة المرآة، فكلامها ليس موجهاً للحبيبة، بقدر ما هو موجه لذاتها، هذه المواساة التي تعرف حروفها مسبقاً لكنها تقولها في كل قصيدة رثاء تكتبها كي تعالج نفسها، وهكذا تتنقل الشاعرة ما بين الأمل واليأس والرجاء والخيبة، حتى تصل إلى إدراك حقيقتها الخاصة، بعدم جدوى الحياة، وتساويها مع الموت:
"لم يحب أحد الحديث عن الرفاق الطيبين
وغالباً فضلنا لو أنكرنا وجودهم
لم يعد الموت بطولة ولا الحياة أيضاً
وامتلكنا أقداراً متساوية من اليأس والحزن والضجر"
هنا تتحول الذات الشاعرة إلى متفرجة على العالم، فتبدو القصائد كأنها نزف، وتأتي الكتابة على حد السكين، وتظهر ثاني شخصيات الديوان أهمية "ريتا غراهام"، لتقودها من محاورة الموت إلى انتظار نهاية العالم بعد أن "قالا كل ما يجب أن يقال سابقاً، أو لم يقولا شيئاً، لأنهما يعرفان مسبقاً، كل ما يريد الآخر أن يقوله"، وهو الوصف الذي يتقاطع مع ما كَتبته مسبقاً عن "التربيت" بالحديث مع ريتا، ورغم اختلاف الحالتين إلا أنها تدرك فيهما تساوي الصمت والكلام، كما نرى في "شخصان يدليان أقدامهما على حافة العالم"، وهي واحدة من أجمل قصائد الديوان:
"ها نحن أخيراً نجلس على حافة العالم، مشبكي الأيدي
بسعادة طفل وطفلة قبلا بعضهما
للمرة الأولى
ونحن نقول في سرنا
هكذا إذن تكون النهايات
ها هي النهاية أخيراً"
تستقبل الذات الشاعرة النهاية بسعادة وثقة من جرب كل شيء، من ذاق الموت والحياة،  من خبِر كل شيء فوصل إلى مبتغاه مطمئناً.
لكن لا يمكن تجاوز ما مضى، من حديث عن "الموت" و"انتظار النهاية"، دون الحديث عن "الحرب" التي تلقي بظلالها على الديوان، ليس فقط كونها سبب رحيل "أيمن ساعي"، لكن لأنها أحد الهواجس الرئيسية لدى الشاعرة، التي ترى حروباً تدور حولها دون سبب، وترى نفسها وأصدقاءها في قلبها ضحايا لها دون مبرر "نحن الذين لطالما عشنا دائما، كأكياس الرمل بين فصيلين متحاربين"، ثم تكشف مأساوية الأمر كله بقولها:
"وحين كان يفض الرصاص قلوبنا
لم يكن أي من الفصيلين
يبكي علينا"
والألم هنا ـ وفي الديوان عامة ـ ليس بالضرورة ألمها هي، بل ألم الآخر، فها هي ترثي ذاتها، وكل أصدقائها مبكراً، لأنها تعرف أن هذه الحرب ـ غير المفهومة وغير المبررة ـ لن تبقي على أحد ليدبج قصائد الرثاء:
"ها نحن الذين بكينا من أجلنا طويلا
لأنه ويا للأسف
ما من أحد خلفته هذه الحرب
ليبكي علينا"
والقصيدة عند آلاء ـ رغم أجواء الموت ـ متمردة فتذكرنا بآرتور رامبو، وثائرة فتذكرنا بلوركا، متشردة تزحف في الشوارع فتذكرنا بالماغوط. لا أقول إنها تشبههم، لكنها تأخذ منهم جنونهم وعصيانهم ورفضهم وتمردهم، وهذا التمرد ليس مرتبطاً فقط برفض سياسي، بل برفض الواقع ذاته، واقعها، أحزانها، أتراحها، موت الأصدقاء، المجتمع المُكبِّل:
"خذ معولاً
واضرب عميقاً في قلبي
اقطع جذر هذا الحزن
خذ معولاً أكبر
واضرب جذر رب البيت
شرد هذه العصافير الحزينة
دع هذه الأغصان تتهاوى.."
فالذات شاعرة هنا ترى الحزن جاثماً حتى على العصافير التي ترمز للحرية والبهجة، لكنها لا تستسلم له، بل تضحي بكل شيء من أجل الانعتاق، والخروج من هذه البوتقة المغلقة، من أجل تجربة جديدة، تجرب فيها كل ما نتحاشاه، من دفن الأم والحياة دون أب في الصورة، وموت أمام المداخل أو في المداخن، وبرد الأصابع والعيش بهويات مسروقة وتبديد الحياة في الحانات ومحطات المترو، فكل هذه اللاحياة قد تغدو حياة مناسبة، إذا غادرت حياتها المزيفة التي تعيشها
"دعني أغادر هذا الزيف
دعني أتشرد.."
والتشرد هنا ثورة، ورفض للواقع، وللإنسانية المنهارة ذاتها، لذا هي تحرض عليها طول الوقت:
"انقذوا العالم
وفكروا كيف تخيطون ثقب الأوزون
انجبوا أبناء
وراقبوهم كيف يكبرون
ثم ابكوا لأجلهم حين يتخرجون
أو يموتون صغارا
في حوادث السير".
ولذا فهي أيضاً تحلم بموت أسطوري، ليس على طريقة الثائر لوركا فتنطفئ كنجمة في منتصف عمرها أوتختفي جثتها كصافرة، لكن على طريقتها الخاصة كما يليق بمتشرد:
"سأموت أمام الجميع
عارية ووحيدة، جافة كغصن
أو ملقاة على شاطئ كسمكة صغيرة
سأموت أمام الجميع
ولن يلقي  علي أحد حبة رمل واحدة
سيجف جسدي
وينكمش أمام الجميع
وأبداً أبداً
لن يهبط أحد على وجهي ويغمض عيني"
والموت بهذه الطريقة الأسطورية ثورة في حد ذاتها، كأن التشرد والتمرد وجهان لعملة واحدة، فمفارقة الواقع والإتيان بفعل غير متوقع ـ في كليهما ـ هو ما تسعى إليه، كما تقول في قصيدتها "أيتها الثورة":
"سأصير شبحاً، أو طائراً
سأصير أي شيء"
والثورة أيضاً هي مساءلة كل المسلمات: الطمأنينة التي غادرت، القصص التي صدقتها صغيرة، ثم اكتشفت عندما كبرت كذبها، انعدام الأمان والصراع المذهبي والطائفي، حيث الله الذي كان يتسلل إلى صندوق ألعابها لييرتبه، يقف في مكان آخر:
"كان الله يقف في ساحة
يحمل سيفاً
وينفذ أحكام القصاص
على بعد شارعين من المنزل
عندما كبرنا قليلا
لم يكن أحدنا يجرؤ على أن يفكر بالله
دون أن يتحسس رقبته"
ديوان آلاء مشحون بالقلق الوجودي، ربما بسبب تجارب الموت والغربة والمرض وأجواء المجتمع المغلق، التي تطغي على الديوان، ومن أجل هذا تبرز الأسئلة الوجودية حول العلاقة بالله، بل إن أحد الأقسام الستة للديوان، تذخر بعشرات الأسئلة، وكأنها تتمثل ما ذكره رامبو في "فصل في الجحيم": "كنت أكتب فراغات الصمت، والليالي، كنت أسجل ما لا يُسجل، كنت أثبت الدخان". هذا ما تفعله الشاعرة في هذا القسم من مساءلة المأزق الإنساني وعبثية الحياة والموقف الجمالي تجاه مأساوية الحياة.
ولعل هذا يحيل إلى أحد مفاتيح الديوان المتمثلة في عنوانه ما بين "الخروج"، و"الأعماق"، فالارتجاف المصاحب للخروج هنا، هو ارتجاف نفسي ناجم عن قلق الاكتشاف وحيرة الوصول، كأنها تتحرر في خروجها من كل ما علق بها صغيرة من أكاذيب ومسلّمات، قبل أن تدرك مع الوقت أن الحياة لا تعمل هكذا:
"الذي يدفع إنساناً
لأن يصير نبياً
أو شاعرا مثلاً
أو حتى قاتلاً مأجوراً
هو القلق
القلق من ألا يتذكره أحد"
هنا يحضر الشعر كعلاج نفسي، بديل للطبيب عديم النفع، يصبح هو الحبل الذي تتعلق فيه الذات المرتجفة إلى خارج أعماقها، حتى تقف فوق أعلى تبةٍ وترى العالم كله خواء، شديد الاتساع، لكن تستطيع قصيدة شعر أن تسعه.
ولأن الشعر هو الطبيب البديل، تستعير آلاء في قصائدها لعبة الأقنعة والأصوات المستعارة، والذوات المختلفة عبر الشاعر/ الرائي الذي يقدم نصاَ ذا طبيعة تخييلية ليست مرتبطة به بالضرورة. فالذات الشاعرة في الديوان وعبر هذا التحرر الجمالي لا تعود إلى الشاعرة في كثير من القصائد، بل بعضها مذكر يخاطب حبيبته وبعضها مؤنث لا يشبه الشاعرة، وبعضها يتحدث بصيغة الجمع، بعضها غارق في مونولوج ذاتي وبعضها يتحدث في ديالوج مع العالم، في بعضها نجد الأب أكثر قرباً من أي شيء، وفي بعضها يكون الآباء هم سبب التعاسة والسأم المتزايد والصباحات الغائمة، في بعضها نحن إزاء أمهات منكسرات وفي بعضها الآخر عكس ذلك. تتخفى الشاعرة خلف هذه الذوات المتعددة، لتفتش عن إجابات أخرى للحياة، ولتقدم شعراً خالصاً يتخلص من اتهامه بأنه نسوي أو ذكوري، شعراً إنسانياً ينشغل ـ لا سيما في القصائد الأخيرة من الديوان ـ بالحديث عن الإنسانية الضائعة. ولا أظن أن آلاء قصدت أن تتخلص بهذا التعدد من إشكالية الذات الكاشفة في شعر المرأة العربية التي اعتاد البعض الحديث عنها، بقدر ما أن الأمر مرتبط بلحظة الكتابة الملتبسة، حيث أرادت أن تفتح باب الشعر على مصراعيه، مازجة بين الواقعين الخاص والعام، والذاتي والكوني و"الأنا" الشعرية والكاتب الضمني.
وإذا كان  الإدهاش ـ في ظني ـ هو أحد وظائف الشعر الأساسية، فإننا نرى ذلك بجلاء في ديوان آلاء حسانين، فهي تتخلى عن الصور التقليدية في الشعر، بل وحتى عن طرق كتابة قصيدة النثر المعتادة التي صارت أشبه بالكلاشيهات، وتترك القصيدة تختار طريقها، ويمكن القول إن القصيدة في هذا الديوان، تأتي كما وصفها بيلي كولينز "رحلة تخيلية إلى هدف لا أستطيع التنبؤ به، ولكنني أعرفه فوراً عندما تجد القصيدة طريقة لإنهاء نفسها"، وهو الأمر الذي ينطبق على الصورة الشعرية منفردة أيضاً:
يسقط الدمع من عيني ريتا
كأنه قطعة نرد تتدحرج
فتتهدل  معاطفنا عن ظهورنا
نحن هنا أمام مشهد سيريالي، تسقط فيه الدموع، فيحدث انعكاس ذلك في شكل البشر، وهذا البناء التراكمي للصورة الشعرية يبدو أحد سمات قصيدة آلاء، تقول أيضاً:
"وحين كنا نحدق معاً نحو شيء بعيد
كنت ألمح غرقي كثيرين
يرسون على شطآن قلبه"
تتمثل هنا الرؤية الجمالية في بناء الصورة لدى الشاعرة، التي تعتمد على المشهدية من جهة، والإدهاش من جهة أخرى والذي يعمل كمحرض جمالي تتضافر فيه المفردة والبنية النصية محققاً المعادلة الشعرية الخاصة بها، فتضحي الصورة وكأنها نص شعري مستقل:
"إنني هوة سحيقة
يرمي الناس فيها الحجارة"
في ديوان آلاء حسانين، كل ما يمكن أن تضمه الدواوين الأولى للشعراء، من طزاجة وبكارة وروح ثورية وكشف للموهبة، إلا أنه يتميز بأنه تخلص من جلّ ما يعيب الدواوين الأولى أيضاً، بل يمكن القول إن الشاعرة في هذا الديوان استطاعت أن تقدم تجربة تبدو وكأنها مبنية على تجارب سابقة لها، رغم أننا بنظرة سريعة على تاريخ كتابة الديوان كما حددته الشاعرة (بين عامي 2014 ـ 2017 )، نكتشف أن عدداً من قصائده قد كتبتها وهي في الثامنة عشرة من عمرها، وهي سن مبكرة إذا نظرنا إلى المستوى المتميز للديوان.
استطاعت آلاء حسانين منذ ديوانها الأول أن تجد صوتها الخاص، ولغتها المميزة، وأن تخطو خطوة واسعة في مشروعها الشعري المبشر، أن تحفر مبكراً نبعها الشعري الذي لا يشبه أحداً، أن تصحب القارئ في رحلة شعرية خالصة من صفحة ديوانها الأول فلا يتركه إلا مع الصفحة الأخيرة.
آلاء حسانين صوت شعري حقيقي، يستحق المراهنة عليه، وعلينا أن نترقب دواوينها القادمة.
..................
*نشر في أخبار الأدب 

عن سارة عابدين التي نظرت في مرآة الشعر حتى وجدت نفسها

ما هو الشعر؟ تقول الشاعرة المصرية سارة عابدين في ديوانها الجديد "المرأة التي نظرت في المرآة حتى اختفت" والصادر أخيراً عن د...